(كل قراءة خيانة مبدعة للنص).يكاد أن يكون البحث الفلسفي الراهن، في الإسلاميات وغيرها أيضاً، مُستغرقاً بأسره - إلا فيما ندر - في نطاق الشروح وتدبيج الحواشي على المتون. ومن هنا فإن قارئ "الأشعري" أو "ابن سينا" لا يختلف عن قارئ "ماركس" أو "سارتر"، فكل منهما "مريد طريقة" أو نهج واحد، وذلك من حيث أن كلاً منهما يتصور أن غاية الغايات من بحثه محصورة في مجرد "عرض" النص المقروء في أفضل لغة شارحة، لا في قراءة "واعية" للنص تلتمس -أساساً- ما يتجاوزه ويتعداه.إن التجربة المهيمنة على تلك القراءات الشارحة (paraphrasing) هي تجربة أحادية جدباء. إنها "تجربة النص" فقط، وحتى هذه التجربة تفقد أعظم ما تنطوي عليه حين يُقرأ النص معزولاً عن مجمل سياقاته التاريخية التي أنتجته؛ أعني بالنظر إليه فقط على أنه بناء مغلق لا يحيل إلى شيء خارج ذاته.لكن من حسن الحظ أن ثمة ضرباً آخر من القراءة يتكشَّف عن مواجهة بين تجربتين - تجربة "النص" وتجربة "الشارح" - وهي مواجهة تفهم فيها الحياة نفسها، على قول "دلتاي".والحق أن هذا النهج في البحث يبدو كأحد النتاجات الجوهرية لحضارة لم تُخلِّف -منذ سنوات إفلاسها - إلا التدثُّر بالنصوص والشروح على متون الأسلاف. وهكذا لقرون عدة لم يتجاوز ما أبدعته هذه الحضارة إطار "التنصيص والتهميش". ويمكن القول إن جوهر "الأزمة" يتأتى من غياب "التاريخي" و"الإنساني" في الوعي الراهن لتلك الحضارة.ويبدو أن هذه الشروح أو القراءات غير الخائنة للنصوص التي جاوزت كل حد في أمانتها أو احتذائها للنصوص، قد تبلورت -تاريخياً- من تجربة حضارة لم تدرك تقدمها ونجاحها إلا في الوفاء لــ "نص"، هو القرآن، وذلك بغض النظر عن ضرورة قراءته في ضوء تجربة العصر؛ أي عصر.إذ النص، أي نص، يُعَد -طبقاً لتلك الشروح- ذو معنى ثابت مطلق يمكن التعرُّف عليه من خلال "تجربة عقلية محضة"، مع أن معناه ينبغي النظر إليه على أنه معنى متجدد يعيش في "قلب التجربة التاريخية" التي تتصف بالضرورة بأنها متجددة هي الأخرى.
Your Comment